كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما بين تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان عليهما السلام، بين حال الكافرين لأنعمه بحكاية أهل سبأ فقال تعالى: {لقد كان لسبأ} أي: القبيلة المشهور روى أبو سبرة النخعي عن أبي قرة بن مسيك القطيعي قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ أكان رجلًا أو امرأة أو أرضًا قال: «كان رجلًا من العرب وله عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير فقال رجل: وما أنمار قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان وسبأ يجمع هذه القبائل كلها» والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين: قحطانية وعدنانية، فالقحطانية: شعبان سبأ وحضرموت، والعدنانية: شعبان: ربيعة ومضر، وأما قضاعة فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قحطان، وبعضهم إلى عدنان، قيل: إن قحطان أول من قيل له أنعم صباحًا وأبيت اللعن، قال بعضهم: وجميع العرب منسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم وليس بصحيح، فإن إسماعيل عليه السلام نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عربًا، والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل عليه السلام منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأهم وجرهم والعماليق يقال: إن أهمًا كان ملكًا ويقال: إنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة يقال لها وبار هلكوا بالرمل أساله الله عليهم فأهلكهم وطم مناهلهم وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
وكر دهر على وبار ** فهلكت عنوة وبار

واسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وسمي سبأ قيل: لأنه أول من سبأ في العرب قاله السهيلي، ويقال: إنه أول من تتوج، وذكر بعضهم أنه كان مسلمًا وله شعر يشير فيه بوجود النبي صلى الله عليه وسلم وقال في سليمان عليه السلام:
سيملك بعدنا ملك عظيم ** نبي لا يرخص في الحرام

ويملك بعده منهم ملوك ** يدينوه القياد بكل دامي

ويملك بعدهم منا ملوك ** يصير الملك فينا بانقسام

ويملك بعد قحطان نبي ** تقي مخبت خير الأنام

يسمى أحمدًا يا ليت أني ** أعمر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري ** بكل مدجج وبكل رامي

متى يظهر فيكونوا ناصريه ** ومن يلقاه يبلغه سلامي

وقرأ البزي وأبو عمرو بعد الموحدة بهمزة مفتوحة من غير تنوين لأنه صار اسم قبيلة، وقنبل بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مكسورة منونة، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفًا ولهما أيضًا الروم مع التسهيل وقرأ {في مساكنهم} أي: التي هي في غاية الكثرة حمزة وحفص بسكون السين وفتح الكاف ولا ألف بينهما إشارة إلى أنها لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد، وقرأ الكسائي كذلك إلا أنه يكسر الكاف والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملائمة لهم واللين، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن قال حمزة الكرماني: قال ابن عباس: على ثلاثة فراسخ من صنعاء {آية} أي: علامة ظاهرة على قدرتنا، ثم فسر الآية بقوله تعالى: {جنتان عن يمين وشمال} أي: عن يمين الوادي وشماله قد أحاطت الجنتان بذلك الوادي وقيل: عن يمين من أتاهما وبشماله.
فإن قيل: كيف عظم الله تعالى جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ورب قرية من قرى العراق يحتف بها من الجنات ما شئت؟
أجيب: بأنه لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدتهم، وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال تعالى: {جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} (الكهف: 32) فكانت أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثمارًا حتى كانت المرأة تضع على رأسها مكتلًا فتطوف به بين الأشجار فيمتلئ المكتل من جميع أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئًا بيدها مما يتساقط فيه من الثمر.
وقوله تعالى: {كلوا من رزق ربكم} أي: المحسن إليكم الذي أخرج لكم منهما ما تشتهون {واشكروا له} أي: خصوه بالشكر بالعمل في كل ما يرضيه ليديم لكم النعمة حكاية لما قال لهم نبيهم، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله: {بلدة طيبة} أي: حسنة التربة ليس بها سباخ، حسنة الهواء سليمة من الهوام ليس فيها بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية يمر الغريب بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب هوائها، وأشار إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره بقوله تعالى: {ورب غفور} أي: لذنب من شكره وتقصيره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب قال البقاعي: وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء قال: وفي بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جدًا في مقدار دربلي بلاد الشام، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكي وليس له نوى أصلًا انتهى.
ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر دل على ذلك بقوله تعالى: {فأعرضوا} أي: عن الشكر فكفروا قال وهب: أرسل الله تعالى إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًا فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعم الله تعالى عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة فقولوا لربكم: فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع.
ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم بينه بقوله تعالى: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته أي: سيل واديهم فأغرق جنتيهم وأموالهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب وغيرهما: كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين وجعلت له أبوابًا ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت منه دونها بركة ضخمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجًا على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا سدوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله تعالى عليهم جرذًا يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فأغرق الماء جنتيهم وأموالهم، وخرب أرضهم قال وهب: وكانوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون ذلك فلما جاء السيل وجد خللًا فدخل فيه حتى اقتلع السد وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل مزق حتى صاروا مثلًا عند العرب يقولون: صار بنو فلان أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ أي: تفرقوا وتبددوا قيل: والأوس والخزرج منهم قال البقاعي: وكان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم.
تنبيه:
في العرم أقوال غير ما ذكر أحدها: أنه من باب إضافة الموصوف لصفته في الأصل إذ الأصل السيل العرم، والعرم: الشديد، وأصله من العرامة وهي الشراسة والصعوبة. الثاني: أنه من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه تقديره: فأرسلنا عليهم سيل المطر العرم أي: الشديد الكثير. الثالث: أن العرم اسم للوادي الذي كان فيه الماء نفسه قال ابن الأعرابي: العرم السيل الذي لا يطاق وقيل: كان ماء أحمر أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء. الرابع: أنه اسم للجرذ وهو الفأر، وقيل: هو الخلد وإنما أضيف إليه لأنه تسبب عنه كما مر {وبدلناهم بجنتيهم} أي: جعلنا لهم بدلهما {جنتين} هما في غاية ما يكون من مضادة جنتيهم ولذلك فسرهما بقوله تعالى إعلامًا بأن إطلاق الجنتين عليهما مشاكلة لفظية للتهكم بهم {ذواتي أكل خمط} أي: ثمر بشع، والخمط الأراك وثمره يقال له: البرير هذا قول أكثر المفسرين وقال المبرد والزجاج: كل نبت قد أخذ طعمًا من المرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط وقال ابن الأعرابي: الخمط ثمر شجر يقال له: فسوة الضبع على صورة الخشخاش لا ينتفع به، وعن أبي عبيدة كل شجر ذي شوك، وقرأ أبو عمرو أكل بغير تنوين، والباقون بالتنوين وسكن الكاف نافع وابن كثير وضمها الباقون قال البغوي: فمن جعل الخمط اسمًا للمأكول فالتنوين في أكل أحسن، ومن جعله أصلًا وجعل الأكل ثمرة فالإضافة فيه ظاهرة والتنوين سائغ تقول العرب في بستان فلان: أعناب كرم وأعناب كرم فتصف الأعناب بالكرم لأنها منه.
وقوله تعالى: {وأثل} أي: وذواتي أثل {وشيء من سدر قليل} معطوفان على أكل لا على خمط فإن الأثل هو الطرفاء ولا ثمر له وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عودًا وقيل: هو نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمر إلا في بعض الأوقات يكون عليه شيء كالعفص أخضر في طعمه وطبعه، والسدر: شجر معروف وهو شجر النبق وينتفع بورقه لغسل اليد ويغرس في البساتين ولم يكن هذا من ذاك بل كان سدرًا بريًا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشيء، ولهذا قال بعضهم: السدر سدران: سدر له ثمرة غضة لا تؤكل ولا ينتفع بورقه في الاغسال وهو الضال، وسدر له ثمرة تؤكل وهي النبق ويغسل بورقه والمراد في الآية الأول، وقال قتادة: كان شجرهم خير الشجر فغيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم.
تنبيه:
قد نبهت في شرح المنهاج على أن الباء في الإبدال والتبديل والتبدل والاستبدال هل تدخل على المتروك أو على المأخوذ عند قول المنهاج ولو أبدل ضادًا بظاء.
{ذلك} أي: الجزء العظيم بالتبديل {جزيناهم} بما لنا من العظمة {بما كفروا} أي: غطوا الدليل الواضح وهو ما جاء به الرسل، إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبيًا فكذبوهم وقيل بكفرانهم النعمة {وهل يجازى} أي: مثل هذا الجزاء الذي هو على وجه العقاب {إلا الكفور} أي: إلا البليغ في الكفر، وقال مجاهد: يجازى أي: يعاقب ويقال في العقوبة: يجازي، وفي المثوبة: يجزي قال الفراء: المؤمن يجزى ولا يجازى أي: يجزي الثواب بعمله ولا يكافأ بسيئاته وقال بعضهم: المجازاة تقال في النقمة والجزاء في النعمة لكن قوله تعالى: {ذلك جزيناهم} يدل على أن يجزي في النقمة أيضًا قال ابن عادل: ولعل من قال ذلك أخذه من أن المجازاة مفاعلة وهي في أكثر الأمر تكون ما بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر، وفي النعمة لا تكون مجازاة لأن الله تعالى مبتدئ بالنعم، وقيل: المؤمن تكفر سيئاته بحسناته، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما يفعله من السوء، وليس لقائل أن يقول: لم قيل وهل يجازى إلا الكفور على اختصاص الكفر بالجزاء والجزاء عام للمؤمن والكافر، لأنه لم يرد الجزاء العام إنما أراد الخاص، وهو العقاب بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه، ألا ترى أنك لو قلت: جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلى الكافر والمؤمن لم يصح ولم يعد كلامًا فتبين أنما يتخيل من السؤال مضمحل، وإن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون مضمومة وكسر الزاي الكفور بالنصب والباقون بالياء المضمومة ونصب الزاي الكفور بالرفع.
ولما تم الخبر عن الجنان التي بها القوام نعمة ونقمة أتبعه مواضع السكان بقوله تعالى: {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {بينهم} أي: بين سبأ وهم بالمين {وبين القرى التي باركنا فيها} أي: بالتوسعة على أهلها بالماء والشجر، وغيرهما وهي قرى الشام التي يسيرون إليها للتجارة {قرى ظاهرة} أي: متواصلة من اليمن إلى الشام {وقدرنا فيها السير} أي: بحيث يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى إلى انتهاء سفرهم ولا يحتاجون فيه إلى حمل زاد وماء من سبأ إلى الشام.
وقيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام فلا يحملون شيئًا مما جرت به عوائد السفار فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، وقال قتادة: كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، فكان ما بين اليمن والشام كذلك، فهي حقيقة بأن يقال لأهلها والنازلين بها على سبيل الامتنان بلسان القال أو الحال {سيروا} ودل على تقاربها جدًا قوله تعالى: {فيها} ودل على كثرتها وطول مسافتها وصلاحيتها للسير أيّ وقت أريد مقدمًا لما هو أدل على الأمن وأعدل للسير في البلاد الحارة بقوله تعالى: {ليالي} وأشار إلى كثرة الظلال والرطوبة والاعتدال الذي يمكن معه السير في جميع النهار بقوله تعالى: {وأيامًا} أي: في أيّ وقت شئتم وإلى عظيم أمانها في كل وقت بالنسبة إلى كل مسلم بقوله: {آمنين} أي: لا تخافون في ليل أو نهار وإن طالت مدة سفركم فيها، أو سيروا فيها ليالي أعماركم وأيامها لا تلقون فيها إلا الأمن فلا تخافون عدوًا ولا جوعًا ولا عطشًا.
وقيل: تسيرون فيها إن شئتم ليالي، وإن شئتم أيامًا لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلًا لعدم علم العدو بسيرهم، وبعضها يسلك نهارًا لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة.
ولما انقضى الخبر عن هذه الأوصاف التي تستدعي غاية الشكر لما فيها من الألطاف دل على بطرهم للنعمة بها بأنهم جعلوها سببًا للضجر والملال بقوله تعالى: {فقالوا} أي: على وجه الدعاء {ربنا باعد بين أسفارنا} أي: إلى الشام أي: اجعلها مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل، وتزوّد الأزواد والماء فبطروا النعمة وملوا العافية كبني إسرائيل لما طلبوا الثوم والبصل فأجابهم الله تعالى بتخريب القرى المتوسطة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بتشديد العين ولا ألف قبلها فعل طلب، والباقون بألف قبل العين وتخفيف العين، وقرئ بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطًا في الترفه وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه {وظلموا} حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة {أنفسهم} بالكفر {فجعلناهم} أي: بما لنا من العظمة {أحاديث} أي: عبرة لمن بعدهم يتحدث الناس بهم تعجبًا وضرب مثل فيقولون: ذهبوا أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ قال كثير:
أيادي سبا يا عزُّ ما كنت بعدكم ** فلم يحل للعينين بعدك منظر

{ومزقناهم كل ممزق} أي: فرقناهم في كل جهة من البلاد كل التفريق قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، أما غسان فلحقوا بالشام، ومرّ الأزد إلى عمان، وخزاعة إلى تهامة، ومرّ خزيمة إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج {إن في ذلك} أي: المذكور {لآيات} أي: عبرًا ودلالات بينة جدًا على قدرة الله تعالى على التصرف فيما بين أيديهم وما خلقهم من السماء والأرض بالإيجاد والإعدام للذوات والصفات والخسف والمسخ، فإنه لا فرق بين خارق وخارق، وعلى أن بطرهم لتلك النعمة حتى ملوها ودعوا بإزالتها، دليلٌ على أن الإنسان ما دام حيًا فهو في نعمة يجب عليه شكرها كائنة ما كانت وإن كان يراها بلية لأنه لما طبع عليه من القلق كثيرًا ما يرى النعم نقمًا، واللذة ألمًا، ولذلك ختم الآية بالصبر بصيغة المبالغة بقوله تعالى: {لكل صبار} على طاعة الله وعن معصيته {شكور} لنعمه قال مقاتل: يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شكور على النعماء قال مطرف: هو المؤمن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلى صبر، وقرأ قوله تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس} أي: الذي هو من البلس وهو ما لا خير عنده، أو الإبلاس وهو اليأس من كل خير ليكون ذلك أبلغ في التبكيت والتوبيخ {ظنه} قرأه الكوفيون بتشديد الدال بعد الصاد أي: ظن فيهم ظنًا حيث قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك} (ص: 82، 83) ولا تجد أكثرهم شاكرين فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه، والباقون بالتخفيف أي: صدّق عليهم في ظنه بهم أي: على أهل سبأ كما قاله أكثر المفسرين حين رأى انهماكهم في الشهوات أو الناس كلهم كما قاله مجاهد أي: حين رأى أباهم آدم ضعيف العزم، أو ما ركب فيهم من الشهوة والغضب أو سمع من الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها} (البقرة: 30) فقال: لأضلنهم ولأغوينهم، أو الكفار ومنهم سبأ كما قاله الجلال المحلي {فاتبعوه} أي: بغاية الجهد بميل الطبع وقوله: {إلا فريقًا من المؤمنين} استثناء متصل على قول مجاهد ومنقطع على قول غيره، وقال السدي عن ابن عباس رضي الله عنه: يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار، أو إلا فريقًا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون قال ابن قتيبة: إن إبليس لعنه الله تعالى لما سأل النظرة فأنظره الله تعالى وقال: {لأغوينهم} و {لأضلنهم} لم يكن مستيقنًا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم، وإنما قاله ظنًا، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم.